languageFrançais

159 سنة بعد ثورته.. هذا ما بقي من علي بن غذاهم

كيف لمن دكّ مضجع محمد صادق باي المترف وحاشيته من اللصوص، أن يُهزم مرتين؟ واحدة في "كراكة حلق الوادي"حيث عاش آخر أيامه، ورحل بنيشان إرادة التحرّر وحلم الثورة والعدالة الاجتماعية، وأخرى بالإهمال والنسيان؟ 

سؤال قد يراودك مراراً، بين الفينة والأخرى، وأنت تتحسس خطواتك الأولى في حضرة ما يطلق عليه أحفاده "مقر علي بن غذاهم".  

المشهد ممّا تبقى من منزل علي بن غذاهم، "باي الشعب"، في قريته التي حملت اسمه "جوى بن غذاهم"، 159 سنة بعد ثورته على محمد الصادق باي، مربك ومحفّز ومحزن، في الوقت نفسه.

بقايا حجارة متناثرة على حوالي 100 متر مربع، كانت تكوّن ثلاث غرف منفصلة، احتوت ثائر "ماجر" و"الفراشيش"، قبل ثورته. شجرة سرو، أعياها القحط، تحرس في صمت ما تبقى من ذكرى علي العامري أو علي بن غذاهم الماجري.

جبل كساه بخل السماء بلون الرمل، كان ولا يزال أقرب جوّار المسكن، بعد أن كان ملجأ ساكنه القديم مع فرسان ثورة 1864 على الحاضرة. وبئر تفتح أحضانها إلى اليوم لإشباع ظمأ ما تبقى من سكان لم يهاجروا نحو الحواضر بعد، ومن طيور مهاجرة رمتها أقدارها إلى مياه حوض يفيض حياة على امتداد قرون من الزمن. 

وقال لطفي العامري الذي يعرّف نفسه لموزاييك على كونه واحداً من أحفاد علي بن غذاهم "مؤسف أن نرى هذا المشهد الذي لا يليق بتاريخ بن غذاهم... نطالب الدولة بإنشاء متحف في المنطقة لحماية ما تبقى من منزله، ومن قيمة تاريخية تليق بمنجز باي الأمة علي بن غذاهم...".

بدوره أشار محمد العلوي الذي سمع عن قصة بن غذاهم عبر روايات شفوية قصّها من سبقه في العيش في منطقة جوى بن غذاهم، إلى هضبة باتت تسمى بدماء البرم، بعد لقاء بن غذاهم بفرسان من قبائل عُدد سنة 1864، قائلا "هناك في ذلك المرتفع الواقع على بعد كيلومترين من منزل بن غذاهم، تناول باي الشعب وضيوفه "الكسكسي" واللحم، وبعدها انطلقت الثورة على نظام باي الحسينيين."

ووفق المراجع التاريخية، كان محمد صادق باي قد أعلن نهاية 1863 مضاعفة "ضريبة المجبى" من 36 ريالاً إلى 72 ريالاً، ليشكّل علي بن غذاهم ومن لحقه من جلّ قبائل وقرى ومدن البلاد حالة رفض منتشرة، ثم ثورة استهدفت خدم الباي، وامتدت وصولاً إلى مشارف الحاضرة. لكن الثورة لم تصمد طويلاً، أمام خبث الوزير الأكبر مصطفى خزندار، ليُسَلَّم علي بن غذاهم من قبل رجل دين إلى جلاّده، إثر عودته من الجزائر، في شهر مارس، من سنة 1866.

 وفارق الحياة، في مكان اعتقاله بسجن حلق الوادي، في أكتوبر من سنة 1867، وفق دراسة لياسين النابلي، تحت عنوان "علي بن غذاهم: حامل آلام القبائل الذي سقط في المنتصف".

سيرة نُقلت مشافهة، بتفاصيل قد تختلف أو تتشابه، في قرية أحفاد بن غذاهم. لكن فخر تمرّد الجدّ على الظلم  وُرث بين الأجيال، وتروى تفاصيله على كل لسان، في مختلف شعاب منطقة جوى بن غذاهم.
يقول محمد الهادي الحرزالي، أحد متساكني قرية علي بن غذاهم "سيبقى باي الشعب رغم النكران بطلاً، وستبقى الثورة ثورة وشرفاً وفخراً..."

بين دمار لحق القرى والمدن الثائرة بعد وأد ثورة بن غذاهم، وعلى امتداد هامش قرية جوى بن غذاهم المفتقر لأبسط مقومات الحياة، يعشش فخر بقيم عدل ومساواة رفعها بن غذاهم،  في وجدان الأحفاد.

وتحت الحجر المتناثر لما تبقى من منزل بن غذاهم المنسي، بفعل هزيمة التاريخ، ثم بإضمار الإهمال واللامبلاة، كأنني أسمع باي الشعب يردد، مرة أخرى، ما نقله عنه أحمد بن أبي الضياف، عندما سخر "المخازنية" من باي الشعب، وهو في غياهب أَسْره وبين بطش أغلاله:"هلّا أتيتم لي وأنا على فرسي، أما إذا أتيتكم بنفسي فلا فخر لكم والحالة هذه..."، وكأنّه كان يخاطب، بكلماته نفسها، من همّش دوره وردم آثاره وتاريخه، من بعده أيضاً.

 

*برهان اليحياوي